ثورة التعلُّم عن بُعد – ما بين الأمس والغد… ألف باء ما بعد الوباء

كتب: نبيل قسطه

 بعد التقلُّبات والإقفالات القصريَّة التي فرضتها الصراعات السياسية وجائحة كورونا من الضروري أن نتوقف لبرهة لنستخلص الدروس والعبر حتى نتمكن من إنقاذ العام الدراسي القادم إن لم  نقل الذي يليه. فالوباء كان له تأثير سلبي على جميع الأصعدة وأدى إلى تحويل التعليم بين ليلة وضحاها من التعليم المحدّد ضمن حدود جغرافية إلى تعليم يعبر المسافات. ويجب أن لا ننسى الإجحاف الذي طال ذوي الصعوبات التعلُّميَّة والحاجات الخاصّة. والذي يتطلب المزيد من المبادرات كتلك التي قام بها مركز SKILD، بالتعاون مع جريدة النهار وهي إطلاق سلسلة من أفلام الفيديو باللغة العربية وعددها 70، تضع بين أيدي الأهل والمدرِّسين مواد تربويَّة تدعم عمليَّة التعلُّم.

هذا الوضع الراهن يدفعنا إلى طرح أسئلة كالتالية:

ما هو واقع التعلُّم والتَّعليم اليوم؟

ما هي رؤيتنا المستقبليَّة وهل نحمل بين أيدينا نموذجًا ناجحًا وفعّالاً ومستدامًا لمتابعة عمليَّة التعليم؟

هل الحديث عن نوع جديد من التعليم مثل التعلُّم السلس (fluid learning) هو من ضمن جدولنا؟

ما هي التغييرات الواجب إحداثها على مستوى الطالب، والعائلة،والمدرسة، والحكومة والدولة؟

ماذا عن المهارات المستجدّة للكوادر التعليميَّة؟ هل ستصبح الكفاءات الرقميَّة والاجتماعيّة مطلبًا أساسيًّا؟

أ – العام الدراسي 2019 – 2020: بدء الجائحة ومرحلة الصدَّمة

عندما أُجبرت المدارس على الإغلاق لأشهر متواصلة، وجب علينا أن نكون سريعي البديهة ونباشر بالتعليم_عن_بعد

 رغم التحديات التي شم

عدم وجود شبكة إنترنت معدّة للضغط الذي يفرضه التعليم_عن_بُعد.

التكلفة الباهظة التي تفرضها خدمة الإنترنت.

الافتقار إلى المعرفة والمهارات التي يتطلّبها التعليم عبر الإنترنت أو وسائل التواصل السمعيَّة-البصريَّة عند عدد كبير من الأساتذة.

عدم امتلاك أغلبية الأسر أكثر من كمبيوتر واحد (أو لوحة إلكترونية واحدة) في المنزلمما يُرغم على استخدام الهاتف النقّال الذي يصعب التركيز عليه.

عدم وجود إمكانيَّة ماديَّة لدى معظم الأسر في تأمين شبكة إنترنت أو شاشة رقميَّة.

ولقد كان للمعلمين والمعلمات دور وفضل كبير سمح بعدم خسارة العام الدراسي بكامله. ولكن ما زالت المشاكل هي هي ولم نخطو أي خطوة نحو حلّ شامل.

ب – العام الدراسي 2020 – 2021 : تعليم مُدمج أو عن بُعد

بفضل الانترنت والخبرة التي بنتها المدارس العام الفائت في مجال التعليم_عن_بعد، انطلق العام الدراسي الحالي بالرغم من تفاقم مشكلة الوباء، وتقرر اعتماده مع التَّعليم الهجين أو التعليم المُدمج، مع أنّ العديد من الأهل والاختصاصيين يعارضون الاستخدام الزائد للتكنولوجيا والإلكترونيّات والإنترنت في التعليم منطلقين من فكرة أنَّ المدرسة هي حجر الأساس للبنية المجتمعيَّة لأنَّها  تزوّد المتعلِّم بالمهارات الأكاديميَّة والمعرفة، وتطوِّر القدرات الاجتماعيَّة، وتصقل الشخصيَّة.

وهنا لا بد من التعليق أنّ هذه المواقف، وإن كانت محقَّة في كثير من النواحي، لا سيّما فيما يتعلَّق بالآثار السلبيَّة المحتملة على صحّة التلامذة، إلاّ أنّها مجحفة بحق التعلُّم-عن-بُعد والتعلُّم المدمج والتعلُّم السلس (learning fluid)، التي أثبتت فعاليّتها كنماذج تعليميَّة يستفيد من حسناتها وميزاتها نموذج التَّدريس الصفي والتَّدريس عبر الإنترنت. ونعيد ونكرّر أنّه من دون تكنولوجيا التواصل والمعلومات لخسر أولادنا عامين دراسيين كاملين.

ج – فأي نموذج نريده لمدارسنا مستقبلاً؟ العام الدراسي التالي وما بعده

فيما نعيش اليوم مرحلة انتشار الوباء وننتظر اللقاح والدواء، مطلوب من أصحاب الشأن الشروع من دون أي تأخير بخلق نموذج جديد للتَّعليم الذي نريده، إذ لم يعد بإمكاننا التركيز على الحضور الصفي فقط. إنَّه الوقت الأمثل للقيام بإجراء تغيير جذري لنهج التعليم التقليدي من خلال نموذج فكريٍّ جديد ونقلة نوعيَّة تناسب عصرنا وحاجاتنا والتحديات التي تواجهنا. قد يكون الوضع الذي خلقته الجائحة هو اللحظة في زمننا التي سنتمكَّن فيها من إراحة أولادنا من نظام التدريس القائم على التلقين والحفظ فقط، لنؤسِّس نظامًا تدريسيًّا قوامه التعلَّم على غرار البكالوريا الدولية والفرنسيَّة والانكليزية والألمانيَّة. أي منهاج تعليم يتطلَّب منهم المراقبة والتحليل والنقد والاستنتاج والابتكار وإيجاد الحلول؛ والانتقاء والاختيار بحسب الذكاءات المتعدِّدة، كما التعاون والتواصل لتنمية وبناء شخصيّة الإنسان والمواطن الخادم.

وبعد قراءات عديدة يتبادر لنا أنّ الحل قد يكون نموذج تعليمي فيه من خصائص ما يُعرف بالـ fluid learning)) التعليم السلس[1] وهي باختصار نموذج تعليم يسمح للتلامذة والمعلِّمات والمعلِّمين الوصول إلى المحتوى عبر الأجهزة والمنصّات والبرامج والتطبيقات على اختلافها لأنه يستخدم المواد التعليميَّة (المحتوى) في ملفّات صغيرة، ويسمح بنقل المحتوى عبر الأنظمة الأساسيَّة والبرامج والتطبيقات الإلكترونية. كما أنه يبقي على إمكانية التفاعل والتأمُّل بين الطلاب وبين المعلِّمين والمتعلِّمين. إنه نموذج تعليم يسمح بالتعلَّم السلس الذي لا يقيِّد المتعلِّم بالوقت الذي يقضيه في استخدام الأجهزة، إذ يتدفَّق التعلُّم السلس من الفصول الدراسيَّة إلى سياقات اجتماعيَّة متعدِّدة.

لأنه “ بدون رؤيا يجمح الشعب” أمثال ٢٩: ١٨

اليوم نحن بحاجة وبسرعة فائقة إلى منظومة تعليم جديدة مبنية على رؤيا تربوية شاملة. “شبعنا أنصاف حلول ووعود وإحباط. نريد حلا كاملا متكاملا”. الآن هو الوقت لإعادة هيكلة وترتيب تطال الوزارات المعنيَّة، لا سيّما وزارة التربية لكي يكون دورها أكثر فعّاليَّة، وتشريع قوانين جديدة، ووضع آلية تمكّن القطاع الخاص من دعم القطاع العام.

الوقت هو للتعاون الحثيث بين القطاع العام والخاص، من خلال تأليف مجلس حوكمة تربوي يتألف من

أخصائيين تربويين، ومدراء مدارس، ورؤساء جامعات، وخبراء في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وممثلين عن وزارتي التربية والصحَّة ومنظَّمات دوليَّة وغير حكوميَّة. فلم يعد ممكنًا ولا مقبولا أن تنفرد جهة واحدة بقرارات وسياسات نحن بأمس الحاجة لها من أجل الحصول على منهاج تعليمي يحاكي احتياجات العصر.

والعمل يجب أن يكون على أن يكون المجلس مؤلفا وحاضرا للشروع بمهامه مع مطلع عام 2021 ويقدم الاقتراحات أو مخططات العمل مع بداية فصل الربيع من أجل التوصل إلى:

تغيير الذهنيّة وخلق تحوّل نموذجي.

تطوير مناهج رقميَّة تفاعليّة ملائمة ومدروسة.

تدريب الكوادر التعليميَّة والإداريَّة

وضع أسس لتقييم الأداء والمهارات والنتائج التعلّميَّة للتعلّم عن بعد.

المباشرة بتقييم مسار التعلّم والتعليم لهذا العام الدراسي.

ترشيد الموازنة للمدارس لملاءمة المرحلة الجديدة ومواكبتها؛

إدخال مسارات أكاديميَّة رقمية إجباريّة تعدُّ الطلاّب الجامعيين الذين يتخصّصون في مجال التربية والتّعليم.

وضع ضوابط وسياسات مسلكيّة للتعلّم عن بُعد.

إرشاد وتوجيه أولياء الأمور ومساعدتهم لكي يقوموا بدورهم.

وأخيرًا وليس آخرًا: وضع خطَّة لبدء التدريبات والتجهيزات للعام الدراسي 2021-2022 ابتداءً من شهر نيسان القادم وحتى نهاية شهر آب مثلاً، على شكل ورشات عملٍ عمليّة وتفاعليَّة. ومن ثم إتاحة المجال للمؤسَّسات التربويَّة لوضع مخطّطاتها السنويَّة وحصصها التعليميّة خلال شهر تموز 2021.

ويبقى أن نذكر أنه من خلال التَّعليم عن بُعد، مع بعض الحضور هذا العام، سنتمكَّن من اتّباع حلٍّ وسطيّ، من دون أن نستكين حتى نطوِّر نموذجًا تعليميًّا يتمتّع بالقدرة على الاستدامة في عالم تسود فيه الافتراضيَّة.

على كل واحد منا دور فاعل في هذه الخطّة المستقبليَّة، بعيدا عن التشاؤم والفشل، لا بل مجهزين بالتفاؤل والعمل والتغيير، وهي كلها مصادر قوّة ونجاح. لعلّ خلق نظام تربوي جديد يساعدنا على خلق لبنان جديد.

[1] Creating a Fluid Learning Environment

https://er.educause.edu/articles/2014/10/creating-a-fluid-learning-environment